الأوّل ع الصف
يوسف غيشان
غالبا ما يدعي الأب..أي أب..امام أطفاله بأنه كان الأول في الصف. هذه كذبة بيضاء بقصد التشجيع، وهي تهون أمام كذبة التاريخ… التاريخ العالمي –بلا استثناء-الذي كتبه المنتصرون لتأريخ انتصاراتهم، بعد تزويقها وتحويلها من مجرد انعكاس لمراكز القوى على أرض المعركة، إلى بطولات عملاقة فرضت الواقع الجديد بالعبقرية والشجاعة والإخلاص، وما إلى ذلك من هذه الكلمات البراقة التي تقطر فخرا.
الأفارقة فهموا اللعبة قبلنا وقالوا:»طالما أن الأسود لا تملك مؤرخها الخاص، فإن قصص الصيد ستمجد دائما الصيادين». وهذه حكمة حياتية لا تنطبق على صيد النمور والأسود وما شابهها فقط، بل تشمل جميع مجالات الحياة البشرية أيضا.
هكذا كتب أهل مصر تاريخهم، وهكذا فعل السومريون والأشوريون والأكاديون والفرس والمقدونيون والإغريق والموآبيون والعمونيون والأنباط، هكذا فعل الرومان والبيزنطيون والعرب، وهكذا فعل الإسبان في أمريكا اللاتينية، مهد حضارة المايا، التي دمروها ونهبوها عن بكرة أبيها وأمها. وهكذا فعل الإنجليز والفرنسيون في أمريكا الشمالية، وهكذا فعل السوفييت إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي على غفلة منهم، وهكذا تفعل أمريكا في العالم من أقصاه إلى أقصاه.
كل إشراقة شمس يعود المنتصرون إلى لعبة تزوير التاريخ وكتابته بما يناسب رغباتهم، فهذه عادة بشرية مرتبطة بالضمير الجمعي للأمم. ولو كان المنتصرون هم الذين انهزموا لفعلوا ذات الشيء، إنه اتفاق جنتلماني غير مكتوب يوافق عليه الجميع بتواطؤ واضح.
تخيلوا لو أن مؤرخا من الفضاء الخارجي كتب تاريخ الأمم والشعوب على الكرة الأرضية منذ فجر الخليقة حتى الان، دون أن يكون متحيزا لأي شعب ولأي أمة، بمعنى أنه كتب التاريخ كما حصل فعلا، دون تزوير أو انحياز، فالتزوير والانحياز مشاكل بشرية لا يعرفها هذا المؤرخ، بل يعتمد على مشاهدة تاريخ العالم يحصل أمامه على شاشة عملاقة، ويستطيع أن يتقدم ويتأخر بهذ الشريط كما يشاء، من أجل المزيد من الدقة.
ستكون فضيحة كبرى لسائر الأمم، التي سترى نفسها بمنظار معكوس، وستكون الشعوب تماما مثل ذلك الفتى الذي أقنعه والده بأن ترتيبه كان الأول في جميع الصفوف المدرسية، ثم اتيح لهذا الفتى رؤية شهادات الوالد المدرسية، ليكتشف أن الوالد كان قبل الأخير بواحد فقط.
سوف تتفق شعوب العالم –كما لم تتفق قط-ضد هذا المؤرخ الإفتراضي، ويترافق صدور كتابه الضخم في التاريخ البشري مع حملات مضادة ومصادرة ورفض، ولا يخلو الأمر من اتهام للمؤلف بأنه يعبر عن مؤامرة كونية على البشرية، ولا بأس أن يتهم كل شعب الشعوب المهزومة في تدبير هذه المؤامرة وتشويه وجه التاريخ البشري المكتوب.
ولو افترضنا أن هناك محكمة دولية على مستوى المجرات، فإن الشعوب المنتصرة ستسعى عن طريق منظمة المجرات المتحدة إلى تقديم هذا المؤرخ إلى محاكمة دولية بتهمة أنه يسعى لتخريب السلم العالمي وتشويه التاريخ المتعارف عليه، وأن هذا العمل ينتمي إلى بند التدخل في شؤون الغير، المحرم حسب قوانين المجرات.