الخواجا يكتب: اللويبدة روح عمان

35
كتب د. ماجد الخواجا

الرحمة والسلام لأرواح من فقدناهم في حادثة انهيار أحد المباني في جبل اللويبدة، وأمنيات الشفاء العاجل للمصابين والمواساة لأهالي المتوفين.

سألني طارق ذات بدايات شغب فكري وأرق ثقافي: أريد أن أصير مثقفاً؟، لم أتردد وأنا أجيبه: عليك باللويبدة، لم يدرك تماماً ذاك المعزى الكامن في الكلمات.

في اللويبدة ثمة روح للمكان يستشعرها المارين في حواريها وبجوار وداخل مبانيها العتيقة جميلة الطراز، لم تتلوث اللويبدة من التشوهات البيئية والبصرية كثيراً، فهي حافظت على شيءٍ من الدهشة المنسابة بأناقةٍ.

جبل اللويبدة هو أحد جبال عمان السبعة الأولى، وتميّزت اللويبدة في مبانيها العريقة ذات الطابع العثماني والأوروبي الذي أضفى عليها روحاً خاصةً بها، وربما إذا أردت أن تتجول مع أحد الضيوف، فلا تجد أجمل من جولةٍ ثرية خصبةٍ في المكان والزمان والفعاليات من اللويبدة.

وحافظت اللويبدة على طابعها الثقافي الذي لاصق اسمها منذ بداية تسعينيات القرن الماضي عندما أصبحت عنواناً وطنياً جامعاً للمفكرين والأدباء والشباب، حتى يمكن أن نطلق عليها بأنها المجمع الوطني للفن والثقافة والسياسة.

جبل اللويبدة قديماً حمل عديداً من الأسماء التي تمثل مراحل تطوره، كان في الخمسينيات يدعى “جبل الوطنيين” حيث كان ملتقى للفعاليات السياسية التي أنجبت العديد من رجالات الأردن، من أمثال منيف الرزاز وأمين شقير وسليمان النابلسي. وفي الستينيات انتقلت إليه السفارات الأجنبية فأصبح يسمى “حي الأميركان” .

ويوجد في اللويبدة عدد من المساجد والكنائس القديمة ذات النمط المعماري الجميل، أهمها وأقدمها مسجد الشريعة وكنيسة الأقباط الأرثوذوكس وكنيسة اللوزميلا، ويرتبط الحي بوسط البلد بأدراج اشتهرت بأسماء العائلات التي سكنتها، ومنها “درج الكلحة”.

ليس غريباً إذا أردنا مشاهدة شباب من جيل الميتا فيرس الحالي وهم يجلسون على المقاهي الشعبية التي تملأ شوارع اللويبدة أو عند أطراف دوار باريس وهم يحملون كتبهم الورقية ويطالعونها، فيما الفضاء والمساحة تحتمل تواطئاً عشقياً يظهر على مقعدٍ متعبٍ ممن عبروا عليه وتركوا خلفهم رائحة الحب الخالدة.

في اللويبدة لا متطلبات كثيرة للدخول في الوطن بأكمله، فأنت تستطيع أن تقضي نهاراً بكامل تفاصيله بأقل التكاليف والجهد، لكنه بأعلى الذوق والمزاج والنكهة، يمكنك التنقل بين قراءة تاريخانية المكان، والولوج إلى دارة الفنون، والوقوف ملياً عند تجمع لشبابٍ مقبلٍ على الحياة عند هذا الركن أو ذاك، وتستمع لندوة ثقافية في رابطة الكتّاب أو الفنانين التشكيليين، وتتفاعل مع حوارات حزبية وفكرية عميقة في مقهى “جدل” أو ركوة عرب أو بيت ستي أو مقهى أرسطو أو دارة الياسمين، أو بيت بلدنا، وإذا أمكنك تتابع إلى المركز الثقافي الفرنسي.

في اللويبدة حقيقة تشتم رائحة الياسمين العماني، فهو يعبق حيثما وليت قلبك، لا يغادرك وإن غادرت المكان.

ربما حدثت تشوهات في ذاكرة المحبين لجبل اللويبدة بعد أن داهمته تحولات اجتماعية هائلة أجبرت كثيراً من سكانه لمغادرته والرحيل بعيداً عن الصخب العبثي البائس الذي غمر اللويبدة مثلما غمر كثيراً من روح عمان الحبيبة، هو حديث عن اللويبدة قد نمتلك زمام بداياته، لكن كيف لنا أن نتجرأ لنقول أننا نمتلك زمام نهاياته.

اترك رد