في هذا الزمن يجدر تذكّر المارشال “أبو الوليد”
كتب نبيل عمرو
قبل أن يكمل عامه الخمسين وفي أوّل يوم من أيام عيد الأضحى المبارك، وعلى ثرى البقاع اللبناني، سقط العميد سعد صايل “أبو الوليد” شهيداً بعدما نجّاه القدر من أطول وأشرس معركة قادها في تاريخه العسكري الحافل بالإنجازات المميّزة. كان ضابطاً برتبة عقيد في الجيش العربي الأردني، يقود واحداً من أهمّ ألويته هو لواء الحسين بن علي. وفي تلك الحقبة من حياته شارك في أول انتصار أردني – فلسطيني جسّدته معركة الكرامة، وكان قبل أن يبلغ رتبته الرفيعة تلقّى علومه العسكرية في أهمّ المعاهد والكليّات العربية والعالمية.
تنظيم قوات الثورة وقيادتها
التحق بالثورة الفلسطينية في العام 1970 فيما كانت تتعاظم الحاجة إلى كفاءته وتجربته، فتولّى تنظيم قوات الثورة الفلسطينية. وهي مهمّة في غاية التعقيد بعد التشتّت الذي حدث جرّاء معارك أيلول، والتحاق آلاف من ضبّاط وأفراد الجيش النظامي بجسم عسكري مختلف، قوامه قوّات غير نظامية تدرّبت ومارست حرب عصابات تختلف قوانينها ومساراتها عمّا تدرّبت وأُعدّت من أجله الجيوش النظامية، فكان سعد صايل قائد عملية الدمج بين نمطين عسكريَّين مختلفين، فشكّل نسقاً عسكرياً مشتركاً، كان بمنزلة البناء الأساسي لقوات الثورة الفلسطينية.
وبفعل ما أنجز من دمج ناجح للقوّات كُلّف بقيادتها الميدانية من خلال موقعه كمدير للعمليات المركزية ليس لقوات العاصفة واليرموك الفتحاويّة وحسب، وإنّما لجميع تشكيلات الثورة أينما وُجدت.
المارشال “أبو الوليد”
سعد صايل بما فعل ومن خلال النجاحات التي تميّز بها استحق لقب “مارشال” في بيروت، إذ أبدى براعة استثنائية في ترويض الفوضى التي يمكن أن تنجم عن اندماج النظاميّين بالعصابيّين، ومعهم عشرات آلاف منتسبي الميليشيا والمتطوّعين، الذين سطّروا جميعاً ملحمة قتال غير مسبوقة كانت ذروتها حرب لبنان عام 1982 التي استغرقت ثمانية وثمانين يوماً متّصلة، تحت قيادة عليا يقف على رأسها وفي مركزها ياسر عرفات وكلّ قادة الصفّ الأول في التشكيلات الفلسطينية واللبنانية الحليفة. أمّا سعد صايل أبو الوليد فكان رجل الميدان والتفاصيل، وتوزيع القوّات وتنسيق مهمّاتها ليس في بيروت وحدها، وإنّما على خريطة لبنان كلّه، حيث التفوّق العسكري الكاسح للقوات الإسرائيلية التي عملت بكلّ ما لديها من قدرات بريّة وبحريّة وجويّة محمولة على أسطول ضخم من السفن والبوارج وآلاف الدبّابات والمجنزرات وناقلات الجند المصفّحة وراجمات الصواريخ، التي كانت تمطر الأهداف المحدّدة بوجبات قصف كثير مع غطاء جوّي وفّره جميع ما لدى سلاح الطيران الإسرائيلي من قاذفات ومقاتلات. كانت مقاومة هذا الجبروت العسكري الضخم مهمّة أقرب إلى الانتحاريّة، إلا أنّ تنظيم المواجهة على الرغم من الإمكانيّات المتواضعة بالقياس إلى الإمكانيّات المتوافرة للخصم، كانت نتيجته إلحاق خسائر جسيمة بالعدوّ وتجنيب القوات الفلسطينية واللبنانية خسائر أفدح فوق ما خسرت من أرواح ومعدّات ومواقع.
إلى جانب مهمّاته العسكرية المباشرة كان أبو الوليد يخوض مفاوضات صعبة مع المبعوث الأميركي فيليب حبيب. لم تكن مباشرة، إذ كانت تُدار من خلال ضبّاط لبنانيّين أشقّاء، فزادت تعقيداً.
كان سعد صايل يدرك بوعيه الاستراتيجي وخبرته الأكاديمية والميدانية أنّ ميزان القوى في الحرب التي تركّزت في أيامها الأخيرة على بيروت، لن يسمح ببقاء قوات الثورة فيها، وكان يدرك أنّ الإسرائيليين وحلفاءهم في لبنان يريدونها هزيمة نكراء مادّية ومعنوية لا تقوم للثورة الفلسطينية بعدها قائمة، فتولّى أبو الوليد مهمّة تنظيم القتال التراجعي إلى حين إنجاز اتفاق يغيّر المعادلة الإسرائيلية ويصبح الخروج من بيروت انتقالاً من ساحة إلى أخرى، وليس كما رغب الإسرائيليون بالقضاء على المقاتلين أو تحويلهم إلى فلول هاربة هائمة على وجهها.
غادرت قوات الثورة بيروت إلى مقارّها الجديدة في العديد من الساحات العربية المضيفة. كانت غالبية القوات قد توجّهت إلى سورية، وكان أبو الوليد على رأسها، إذ تولّى تنظيم تموضعها في أيّ مكان سمح لها بالتموضع فيه ونجح في ذلك.
لماذا اغتيل أبو الوليد؟
بعد الخروج المنظّم من بيروت كان لا بدّ من إلغاء دوره المميّز والفعّال في إعادة تنظيم القوات الفلسطينية في ساحاتها المتبقّية على الجغرافيا اللبنانية والسورية. كان أبو الوليد هو الأكثر تأهيلاً وقدرة على أداء هذا الدور. لم يكن الأمر مجرّد وقف لدوره المستجدّ، بل عقاباً كذلك على أدائه الذي شهد به الجميع في تنظيم القوات المسلّحة الفلسطينية بكلّ أنماطها وتشكيلاتها.
يُقال عن حقّ إنّه لو لم يُقتل أبو الوليد غيلةً وغدراً في البقاع اللبناني، لَما تسنّى للانشقاق الكبير أن يحدث بالكيفيّة والمساحة التي حدث بهما. فلقد كان أبو الوليد يحظى بإجماع القوّات عليه ومحبّتها له، واقتناعها به، وكان ذا كلمة مسموعة عند كلّ حَمَلة السلاح الفلسطينيين وحلفائهم من اللبنانيين والعرب، وكان يستحقّ الرهان عليه لمواصلة البناء والتنظيم وتطوير القدرات.
في أوج وعنفوان شبابه المتدفّق حيويّة وعطاءً وفي منتصف الطريق نحو الانتصار الذي سعى إليه، وفي أوّل أيام عيد الأضحى قُتل المارشال الذي حاز رتبته ولقبه بفعله ليس إلا، وفقدت التجربة العسكرية الفلسطينية الصعبة والمجيدة أحد أهمّ بُناتها. كان أبو الوليد، الذي حصل على رتبة لواء بعد استشهاده، قائداً استراتيجيّاً يدرك بوعي صقله العلم وأنضجته التجربة، تلك الصلة التي لا بدّ منها بين الوعي العسكري والسياسي وبين التحصيل الأكاديمي والتجربة الميدانية، وبين العسكرية التقليدية ورديفها العصابي الفدائي. كان أبو الوليد مدركاً بوعي عميق وصافٍ لمكانته ودوره في مركز كلّ هذه المجالات، لذا كان جديراً بأن يوصف بمارشال بيروت، غير أنّه كان فعلاً مارشال الثورة الفلسطينية.
حين التقى فيليب حبيب بالراحل الكبير الملك الحسين بن طلال وتحدّث إليه عن إعجابه بالقائد الفلسطيني سعد صايل أبي الوليد، قال له الحسين مفتخراً: “هذا الرجل كان قائداً لأحد أهمّ ألوية جيشنا العربي الأردني”.