البطاينة يكتب: ترنح وارتداد وتشتيت النخب السياسية الاردنية !
كتب المهندس سليم البطاينة
ثمة مقدمات لا بد من استحضارها في عملية ارتداد وتشتيت النُخب السياسية عن واقع المشهد حالياً !حيث يصعب علينا أن نحصُرها في عامل واحد فقط … فالحقيقة أن أسباب جرعة العتاب ليست مجهولة، وإن المدخل للتشخيص لا ينبغي أن يبدأ من سؤال غياب النُخب بقدر أن يبدأ بسؤال مهم: من الذي يقوم بتوزيع الأدوار واللاعبين ويختار المشاهد ويصنع الازمات ؟
فما زالت أدوات السياسة الأردنية بشكلها التقليدي مفتقرة إلى الجاذبية، وظاهرة الإغتراب السياسي تتفاقم دون علاج ، وهذا يعني عدم ثقة المواطنين في السياسيين والحكومات وشعورهم بعدم الأنتماء وانفصالهم عن مشاريعهم وأحلامهم وبيئتهم السياسية.
والدولة الأردنية للأسف يغيب عنها أنها كائن حي وبحاجة إلى نُخب كي تستطيع أن تستقر وتستمر، واعتقادي أن ابتعاد الغالبية العظمى منهم جاء نتيجة ضغوطات مورست عليهم … فالوجوه التي نراها ونشاهدها في حوارات وبرامج أو حتى في كتابات نجد أنها ضعيفة المنطق وهزيلة المعرفة.
والمتتبع للحياة السياسية في الاردن يجد بدون ادنى شك أن تراجعاً هائلاً بلغ ذروته حدث للنخب السياسية بحيث وصلت إلى حالة من التعب والإنهاك وتقلصت كثيراً وأبتعدت بقدر الامكان ولم تعد قادرة على اقتراح أي شيء جديد … وتضاعفت درجة الإنهاك لديهم وفقدوا الكثير من قدراتهم وأمكانتهم لإحداث أي تقدم … فالإضطراب الذي يعانون منه سببه توالي الأحداث بشكل متصارع على مدار السنوات القليلة الماضية.
وكثيراً منهم باتوا منهكين ونال التعب منهم وأصبحوا غير قادرين على القيام بأي جهد لإسترداد قوتهم وأنفاسهم، بحيث اختاروا الرجوع خطوات إلى الخلف حتى يتمكنوا من رؤية الصورة كاملة.
وعلى الجانب الأخر نرى أن المجتمع الأردني أيضاً نال منه التعب والإنهاك وتغير سلوكه وانتشرت ثقافة اللامبالاه على المساحة الأكبر من ذهنيته … فعندما يحس الناس بالتعب فإن أول ما يفعلونه هو الدخول في مرحلة استراحة وخمول وانشغال بكل ما هو غير جدي.
وعند اصابة المجتمع بالإنهاك فأعلم أن عودته إلى وضع النشاط يستغرق وقتاً طويلاً ليس بالقليل، وما يجعل الناس مُنهكة هي قضايا عديدة أهما تردي أحوالهم المعيشية والإجتماعية ! والأردنيون عموماً لم ينعموا بلحظات راحة ووضوح منذ فترة طويلة في وجهتهم وهويتهم الوطنية وخياراتهم المستقبلية ، وما يحدث من محاولات لتشكيل الوعي الأردني على مقياس سياسي معين سيفشل ولن يجدي نفعاً.
وجملة لقد تعب الناس أساسية في فهم تاريخ المجتمعات وحركتها، خصوصاً إذا كان هناك من يدفع نحو أحداث المزيد من حالة الإنهاك.
فعالم السياسة السويسري ( Peter Hans ) يشرح بنظرية له أن انغلاق النظام السياسي سيؤدي إلى راديكالية المعارضة، ومن غير الممكن للإعلام أن يحدد توجهات الرأي العام إلا من خلال نخبة مساندة من ناحية تفسير السياسات أو صياغة الرؤى والافكار.
أنه من المحزن حقاً أن ترى النخب الفكرية والسياسية يتراجعون إلى الوراء مُفسحين المجال وتاركين الساحة السياسية لظواهر صوتية ولصبيان السياسة المتطفلة الذين يعانون من الفقر السياسي والتكلس الفكري ويتصدرون المشهد ويعرقلون عملية الأصلاح ويفرغونها من محتواها ويحرفونها عن اهدافها.
فلا يوجد نظام سياسي في أي مجتمع يخلو من نُخبه، وغياب النخب يولد نوعاً من الرتابة السياسية، وكثيراً من النُخب حالياً باتت تقف بين مفترق طرق بين البرغماتية والإنتهازية … وهناك نخب وهمية تحتاج حفاظات سياسية تسللت إلى السلطة في حالات معينة من مراحل الفراغ يتمتعون برداءة الخطاب وغير قادرين على ممارسة السياسة ، وطغت عليهم الانانية والمصالح الضيقة.
وعلى سيرة النُخب الوهمية الباحثين عن الثروة والسلطة ولا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية ، فبالتأكيد جميعكم تذكرون المسلسل المصري الشهير ( رأفت الهجان ) عام ١٩٨٧ للكاتب المصري صالح مرسي ( الجزء الأول ) ، حيث يروي كاتب المسلسل في لقطة لها مغزى ومعنى كبيران ! واللقطة تدور حول المجموعة التي كانت تعمل حول رأفت الهجان في أسرائيل ومنهم ضباط وطيارين وتجار وسياسيون … الخ ، وهؤلاء كانوا دوماً يرقصون ويغنون ويطبلون لأي عمل تقوم به الحكومة والجيش الأسرائيلي إلا واحدة من هؤلاء هي ( سيرينا آهاروني ) التي قامت بدورها الممثلة المصرية تهاني راشد ، العضو البارز في منظمة الهستدروت ( اتحاد العمال والفلاحين في دعم الاستيطان وبناء مجتمع عمال اليهود ) … ولما عرض رأفت الأسماء ومواصفات كل منهم على جهاز المخابرات المصرية كي تختار بعضاً منهم للتجنيد لصالح مصر ! أعتقد رأفت أن أول شخص سيقع الاختيار عليه هو ( سيرينا أهاروني ) ! لكن حدث العكس فقد رشحت المخابرات المصرية أسماء المطبلين والمنافقين والمصفقين كي يتم تجنيدهم ! وهنا تعجب رأفت من عدم أختيار ( سيرينا أهاروني ) وهي أشد المنتقدين للحكومة والجيش الأسرائيلي ومتعاطفة أحياناً مع العرب ! وكان جواب المخابرات المصرية بأن سيرينا أهاروني هي آخر شخص تفكر بتجنيده لأنها أكثرهم وطنية وإخلاصاً لوطنها وبلادها.
فالفرق كبير بين الصمت والأنكماش والإحتجاج ، وبين الإرتداد والنصيحة والنقد، والذي هو عملية تطهير وتصفية كالذهب حينما يُصهر بالنار … فعندنا تُضرِب النخبة عن التفكير تتحول إلى عامل تعطيل ! ضررها حاصل ونفعها معدوم، وعندما توكل المسوؤلية إلى هواة ، تكون خسارتها فادحة ، وكلفتها عالية … فالأوضاع بشكل عام تعكس الحالة المتردية التي تعيشها النُخب الأردنية نتيجة العجز عن قيادة أي تغير أو إصلاح، علمًا أن جميعم يؤمنون بشرعية النظام السياسي القائم في المملكة إيمانًا مطلقًا.
يبدو التفاؤل مستحيلاً في هذه المرحلة ويبدو التشاؤم يعكس الواقع بأكثر أمانة، فقد عملت الدولة على تصحير نفسها من النُخب وأفراغ مؤسساتها من الأكفاء … فالنُخب الحالية على الساحة تم تفريخها من خلال وظائف الدولة ومن خلال التوريث والمصاهرة والنسب والنفوذ العائلي التي سيطرت على صياغة القرار السياسي وتوارثت المناصب والنفوذ طوال العقود الطويلة الماضية.