وفاة الصحفي السوداني عبد الكريم قاسم
لم يمض طويلاً من إطلاقه مناشدة مؤثرة يخشى خلالها موته بسبب انعدام الرعاية الصحية، إلا وسلم الصحفي السوداني عبد الكريم قاسم روحه الطاهرة إلى بارئها بعد أن فشل في الحصول على ما يكفيه من جلسات غسيل الكلى، ليروي فصلاً جديداً من مسلسل مأساة المرضى في هذا البلد جراء الحرب.
قبل رحليه بأيام كتب قاسم الذي عمل صحفيا ومدققا لغويا في عدد من الصحف ووسائل الإعلام المحلية في السودان على صفحته في فيسبوك :”غسيل الكلى متوقف. إذا لم تقتلك الحرب والرصاصة، سيقتلك عدم الغسيل! من يعرف مكان غسيل فليدلنا عليه”.
وظل عبد الكريم يطلق نداءات استغاثة ومناشدات لأطراف الحرب بالابتعاد عن المرافق الصحية وفك الحصار عن مستشفى الأمل بمدينة بحري شمالي العاصمة إذ كان يتلقى الرعاية الصحية فيها لسنوات وهي قريبة من محل إقامته، لكن حجب دوي المدافع صوته الخافت حتى فارق الحياة بعد معاناة مع الألم.
ويُعد “قاسم” واحدا من مئات السودانيين الذين يعانون من الأمراض المزمنة مثل القلب والكلى والسكري، ماتوا بسبب فشلهم في الحصول على الرعاية الطبية اللازمة بعد أن خرجت 72% من المؤسسات العلاجية في العاصمة الخرطوم عن الخدمة، إضافة إلى صعوبة الوصول الى المستشفيات العاملة منها نتيجة الاشتباكات المسلحة.
ويعيش المرضى في السودان مآسي متشابهة، لكن مرضى الفشل الكلوي البالغ عددهم 7 آلاف يتلقون العلاج في 104 مركزاً صحياً وفق وزارة الصحة، هم الأكثر عناء إذ تتعرض صحتهم إلى التدهور سريعاً حال لم يجدوا الجلسات الكافية من غسيل الكلى.
ومع انهيار النظام الصحي في العاصمة الخرطوم، غادر العديد من مرضى الكلى إلى مدني عاصمة ولاية الجزيرة وبورتسودان والنيل الأبيض بغرض إنقاذ حياتهم بالحصول على الرعاية الطبية اللازمة، لكن المراكز الولائية لم تستطع مقابلة الكم الهائل من المرضى الجدد، لتستمر المعاناة.
وتروى أميرة صبري، زوجة الصحفي الراحل عبد الكريم قاسم لموقع “سكاي نيوز عربية” قصة معاناة زوجتها قبل وفاته حيث كانت العائلة في حالة تجول مستمرة وسط أزيز الرصاص والمدافع في مدينة بحري الملتهبة بحثاً عن مركز غسيل كلى يعمل، لنزع الألم عن فقيدها.
تقول صبري “ذهبنا إلى مستشفى الأمل وأحمد قاسم في مدينة بحري ومركز الصافية ومستشفى البان جديد بضاحية الحاج يوسف شرقي العاصمة، وتمكنا من الحصول على جلسة غسيل مخفضة مدتها ساعتين فقط بدلاً عن 4 ساعات كما كان يحدث معه في السابق، كما تم تقليص عدد الجلسات من مرتين إلى مرة واحدة خلال الأسبوع”.
وتضيف “التقليص في ساعات جلسات الغسيل وعددها، أدى إلى تدهور الحالة الصحية للراحل بصورة كبيرة بعد أن نقص البوتاسيوم في جسده وكاد أن يتوقف قلبه، وصار غير قادر على الحركة الشيء الذي زاد قلقنا عليه، فغادرنا إلى مدينة شندي التي تبعد عن الخرطوم بنحو 200 كم شمالا بحثاً عن الرعاية الصحية اللازمة”.
لكن بعد قطع كل هذه المسافات، وجد “عبد الكريم قاسم” الوضع في مدينة شندي مشابه لما تركه في الخرطوم حيث تكتظ مراكز غسيل الكلى، وتمكن من الحصول على جلسات غسيل بمعدل ثلاث ساعات في جلسة واحدة كل أسبوع، الأمر الذي قاد إلى مزيد من تدهور حالته الصحية ومن ثم وفاته، وفق زوجته.
لم يكن “قاسم” وحده من راح ضحية انعدام الدواء، فهناك مئات المرضى وفق تقديرات غير رسمية، توفوا على بوابات المستشفيات المغلقة أو داخل منازلهم بعد أن حالت نيران الحرب دون الخروج، وهم يصارعون آلام المرض.
وقال الكاتب الصحفي السوداني عثمان ميرغني إن “شقيقه الأكبر محمد توفي خلال الأسبوع الماضي مضيفا رقما إلى الآلاف الذين ماتوا في صمت بسبب فشل الحصول على الرعاية الطبية ولم تشملهم إحصائيات المنظمات التي ترصد من يسقطون بالرصاص ويسقط من دفاترهم أضعاف من الذين حرموا من الوصول إلى المستشفيات”.
ويضيف ميرغني اعتقد من ماتوا بسبب عدم الحصول على الدواء أو الطبيب أو عدم الوصول إلى المستشفى يساوون عشرة أضعاف الأشخاص الذين قتلوا بالرصاص والقنابل”.
وتابع “شقيقي أفضل من مئات لا يزالون بعد أكثر من شهرين لا يجدون من يستر أجسادا لم يتبق منها إلا العظام، فهو على الأقل وجد من يصلي عليه ويستودعه الذي لا تضيع ودائعه، ربي تقبله مع الأنبياء والشهداء والصالحين”.
ويشير سكرتير اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان د. عطية عبد الله في حديثه، أن غالبية مستشفيات العاصمة الخرطوم خرجت عن الخدمة، وحتى التي تعمل منها تعاني من انقطاع التيار الكهربائي والمياه وصعوبة وصول الكوادر الطبية المتخصصة”.
ويقول عطية “مستشفى أحمد قاسم كواحد من أكبر مراكز علاج القلب والكلى يعمل بشكل متذبذب نتيجة نقص إمداد الكهرباء والمياه وينطبق الأمر على كل المشافي في العاصمة الخرطوم، الأمر الذي يقود المرضى إلى الوفاة، وليس هناك حصيلة، ولكن من ماتوا بسبب عدم تلقي الرعاية اللازمة كُثر”.
لم يكتف قلب “أميرة صبري” بالحزن على زوجها الصحفي عبد الكريم قاسم، لكنه يحترق بالأسى على زملاء الراحل الذين كانوا يتلقون معه العلاج في مراكز غسيل الكلى، فقد علمت بوفاة 4 منهم، بينما لا يزال آخرون يقدرون بالمئات على قيد الحياة يعانون مع الألم ويواجهون خطر الموت في صمت.
تقول إن زوجها تركها مع أبناءها الثلاث “بنتان وولد” وسط أمواج من الحزن والأسى على فقده، ينظرون إلى واقع مظلم من حولهم بعد أن دمرت نيران الحرب كل شيء والتهم عميد عائلتهم، وترى أن وقت إنهاء القتال الجاري قد حان، حتى تتوقف الدماء والدموع التي تسيل على فقد الأعزاء.