الأردن اليوم – لا يمنَحك الوصفَ الدقيقَ للحربِ، ومذاقَ النصرِ، إلا مَنْ كانَ شاهدَ عيانٍ، وتعرَّضَ بيته وقريته ومدينته للقصفِ والدمارِ، واستشهدَ أقاربُ لهُ أمامَ ناظِرَيْه، هو وحدَه من يسرِدُ التفاصيلَ بحُلوِها ومُرِّها.
“بترا” بحثَتْ عن بعضِ الشهودِ المدنيين الذين عاشُوا معركةَ الكرامةِ، وما سبَقَها، وما لحِقَها، فوَجدتِ الحاج محمود البلاونة (ابو خالد)، يجلسُ أمامَ بيتِه، على مقعدٍ، وحولَه أحفادُه، بعدَ أنْ وصلَ عمرُه إلى أربعةٍ وسبعينَ عامًا، متذكرًا ما حدَثَ في بلدتِه “الكريمة” في الأغوارِ الشمالية، ليروِي تفاصيلَ صمودِ المدنيِّينَ، ودفاعَ الجيشِ عنهم، ولَجْمِ إسرائيلَ عن ابتلاعِ أرضٍ عربيةٍ جديدة.
يقولُ السبعينيُّ البلاونة: إنه كانَ يسكُنُ قريةَ الكريمة، ووُلِدَ بها عامَ 1944، وقتَها لم يكنْ هناكَ كثيرٌ من السكانِ، وكانتِ الحياةُ بسيطةً، ووقتها لم يكنْ في القرية أيُّ جنديٍّ عربيٍ، ومع ذلك فقد قصفت إسرائيلَ قريتنا عدّةَ مرّاتٍ وبعُنْف وبدون أي مبرر.
والحاجُّ البلاونة نفسه، كان أحد الشهودِ على صبرِ المدنيِّينَ في الكرامة وتضحياتِهم، ووقوفِهم مع الجيشِ العربيِّ، ورفضِهِمُ الترهيبَ والقتلَ الإسرائيليَّ، وعدمِ مغادرةِ أرضِهم، ومقاومةِ الحربِ الاقتصاديةِ ضدَّ السكان، مبينا أنَّ نصرَ الجيشِ العربيِّ في الكرامةِ، أسهمَ في حماية سكانِ القرية من بطش إسرائيلَ ولجم أطماعها في ابتلاعِ أرضٍ جديدة، ورسخ حياةِ آمنةً في الأيامِ التي تلتِ المعركةَ وحتى اليومِ، حيث ما زلنا نعيش في الكرامة بفضلِ هذا النصرِ حتى اليوم.
يتحدثُ البلاونة وهو يحاوِلُ أنْ يتذكَّرَ المشهدَ بتفاصيلِه.. أولُ القصفِ كانَ في المزارعِ التي يعملونَ بها، ووقتَ ذاك لم يكنْ موجودًا في المزرعةِ شخصيا، وسمعُوا أنَّ هناك من استشهدَ في هذه المزارعِ التي تَبْعُدُ كيلو مترينِ تقريبًا عن القرية، مبينا أنه ذهبَ هو وأخوهُ وثلاثةٌ من الرجالِ مع حلولِ الليلِ إلى مكانِ القصفِ؛ ليتفقدُوا “أم طُعمة”، التي كانتْ في مزرعتِها في ذاك الوقتِ، ليجدُوها وقدِ استشهدَت، وقرَّرُوا أن يحملُوها على “تراكتور” زراعيٍّ.. وفي هذا الوقتِ، يقولُ الحاجُّ محمود: “بدأتْ إسرائيلُ بقصفِنا مرةً أخرى”.
ويصفُ الحاجُّ البلاونة، حالَ بناتِ “أم طُعمة”، اللواتي ذهبنَ سريعًا إلى منطقةِ “البلاونة”، بسبَبِ القصف، واتجهَ هو وأخوهُ ومعُهمُ الأشخاصَ الثلاثةَ إلى الشمالِ، حيثُ منطقةُ “السعيدية”، وهناك قصدُوا مزرعةً، ومكثُوا فيها وقتًا حتى انتهَى القصفُ، ثمَّ أَخرَجُوا “أم طُعمة”.
ويستذكر ايضا، “في اليومِ الثاني استشهَدَ أيضًا سالم حسن الحمدان الشقاح، وأبو يوسف الطبراني، بقصفٍ شديدٍ على الكريمة، وأخرجْنا الطبراني، الذي ينحدِرُ أصلُه من منطقةِ “طبريا” يقولُ أبو خالد، وبذلك ودَّعتْ كريمة خلالَ يومينِ ثلاثةَ شهداءَ مدنيين، تمَّ دفنُهم في مقبرةِ البلدةِ الجنوبية، فيما سقطت على الكريمة والمزارع القريبة منها أكثرَ من مئةِ قنبلةٍ، وكنا نحن “نرقبُ المشَهدَ بكلِّ تفاصيلِه، وما زلنا نتذكَّرُه حتى اليوم”.
ويبينُ أنَّ الكريمة كانت لا تحتوِي إلَّا على اثنيْ عشرَ منزلًا مبنيَّةً من الطينِ، ويعمل سكانها في الزراعةِ، لكن إسرائيلَ التي كانت تستهدف الجميعَ، كانتْ تُصِرُّ على تهجيرِ السكانِ، وإفراغِ المنطقةِ، وهو ما لم “تحققه مقابل إصرارنا على التشبث بأرضنا” باستثناء أننا كنا في حالة كر وفر للاحتماء بالمغر في منطقة الوهادنة التي ما زالتْ شاهدةً حتى اليومِ على ما حدَثَ قبلَ المعركةِ وبعدَها.. فقد هدم القصف الاسرائيلي ستةَ بيوتٍ تقريبًا في القرية، مشيرا بإصبعه إلى بيوت حديثة بنيت مكان المهدمة، ويشير ايضا الى مكان بيتَ أخيهِ الذي سُوِّيَ بالأرضِ، وانفجرتْ بجانبِه قنبلةٌ، إلَّا أنَّ اللهَ كتَبَ له عمرًا جديدًا، ولم يَمُتْ.
وعندَ عودتِه من المزرعةِ في يومِ استشهادِ أم طُعمة، وجدَ زوجتَه قدْ أُصيبَتْ بسببِ القصفِ على القريةِ، وأُسعِفَتْ إلى دير علا، ووجَدَ والدتَه على البابِ، التي طمأنتْه على أبنائِه، وأنَّهم موجودونَ في المغارة، واصفا حالة الناس يومها بأنَّها كانتْ مليئةً بالخوفِ والرعبِ، وسط دوي الانفجارات والاشتباكاتِ، واستهدافِ المدنيِّينَ، ذلك أن الاسرائيليين لم يكن يعنيهم التمييز بينَ طفلٍ وامرأةٍ وكبيرٍ في السن.
ومع اشتداد القصف بدأتْ معركةُ الكرامةِ الفعليةُ والفاصلةُ وفجأة سقط أثناء البحث عن مكان يختبئ فيه في أحدِ الخنادق، فوجَدَ فيه فلسطينيًّا، قالَ له مطمئنا “لا تخَفْ، أنتَ بأمان”، وهناك، كما يقول البلاونة، مكَثَ فترةً في الخندقِ حتى عادَ إلى قريتِه.
وفي الكريمةِ، وتحديدًا في حيِّ الإسكانِ، التقينا أبو المنذر، الذي كان يخدُمُ في الجيشِ وقتَ الكرامةِ، متذكرًا بعضًا من أحداثِ المعركة، الذي اكد روايةَ الحاجِّ البلاونة، ويقولُ: “سمِعنَا عنِ استشهادِ ثلاثةٍ في منطقةِ الكريمة”، حيثُ لم تكنْ هذهِ المنطقةً كثيفة بالسكانِ، وكانتِ الكريمةُ مجرد قريةِ صغيرة تُسمَّى “كريمة البلاونة”، مشيرا إلى أنَّ كثيرًا من السكانِ عادُوا إلى هذهِ المنطقةِ بفضلِ الجيشِ العربيِّ الذي أوقفَ أطماعَ إسرائيلَ باحتلالِ المنطقةِ بالكامل.
ويُبيِّنُ ابو المنذر أنَّ معركةَ الكرامةِ كانتْ أحدَ أسبابِ الأمنِ التي شجَّعَتْهُم على البقاءِ، والعودةِ إلى أرضِهم وزراعتِها، لِمَا تتصِفُ به من مناخٍ مناسبٍ لكثيرٍ من المزروعاتِ، ومن هنا استحقت وصف “سلَّةُ الأردنِّ الغذائية”.
المُؤرِّخُ بكر خازر المجالي قالَ: إنَّ الكرامةَ لم تكنْ فقط يومَ الحادي والعشرينَ من آذارَ عامِ 1968، بلْ سبقَتْها أجواءُ حربٍ واشتباكاتٌ متقطِّعَةٌ، وكانَ المدنيونَ أحدَ المستهدفِينَ من الاحتلالِ الإسرائيلي، مضيفا أنَّ البدايةَ كانتْ يومَ الخامسِ والعشرينَ من كانون الثاني عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثمانيةٍ وستينَ، حينَ قامتْ إسرائيلُ بقصفِ مخيَّمِ غور نمرين، ورغمَ كلِّ هذا القصفِ لم يُغادِرِ المُخيَّمَ أيَّ شخصٍ، وهو الصمودُ بعينِه.
وفي الثامنِ من شباط 1968 يشير المجالي الى ان إسرائيل قصفت وبشكل مكثف لقريةِ الكريمة وسكانهاِ، وحينها استَشهَدَ أربعةُ مزارعينَ، وثلاثُ نساءٍ، وطفلٌ عمرُه ثلاثُ سنواتٍ، وجُرِحَ تسعةُ مواطنين، وفي الساعةِ السادسةِ عشرةَ وعشرِ دقائقَ طالَ القصفُ قريةَ معدّي ومخيمَ النازحينَ وداميا، وفي الساعةِ السابعةَ عشرةَ والربعِ تمَّ استهدافُ مخيمِ النازحينَ في الكريمة بمئةٍ وخمسينَ قنبلةً، والذي اعتُبِرَ العدوانَ الأعنفَ، وتمَّ خلالَه هدمُ البيوت، لافتا الى أنَّ هذه القرَى لم يكُنْ بها جيشٌ، فقوّاتُ الحجابِ كانت موزعة على الواجهةِ على طولِ نهرِ الأردن، والمدفعيةُ بالتلالِ، وكان عددُ سكانِ منطقةِ الكرامةِ في ذاكَ الوقتِ نحوَ ألفَيْ نسمة.
وأشار الى أنَّ إسرائيلَ كانتْ تَشُنُّ حربًا اقتصاديةً أيضا، تستهدِفُ السكانَ لإجبارِهم على عدمِ العملِ في هذهِ المناطقِ، حتَّى إنَّ أحدَ المزارعينَ كانَ يعملُ على “تراكتور” زراعيٍّ، تمَّ قصْفُه واستشهَدَ في منطقةِ داميا، مشيرا الى استشهاد ثلاثة مدنيين يومَ المعركةِ الفاصلةِ أثناءَ نزولِهم من السلط.
وفي الحادي عشرَ من شهرِ شباط، وفي الساعةِ السادسةَ عشرةَ وخمسينَ دقيقةً كثَّفتْ إسرائيلُ من قصفِها على مناطق المغطس وسويمة ومثلث العارضة ومزارع وادي الأردن لمدةِ سبعِ ساعاتٍ متواصلة.. ويتحدثُ المجالي عن معركةِ الجنودِ السبعةِ، والتي وقعتْ في الخامسَ عشرَ من شباط الكرامة، واستشهدَ بالإضافةِ إلى الجنود السبعةِ ستةٌ وأربعينَ مدنيًّا في المنطقةِ الشماليةِ في مناطقِ: المشارع، وقميم، وتل الأربعين، والشونة الشمالية، والمشروع، والزمالية، والجفين.
ويؤكِّدُ المجالي أنَّ الجيشَ الأردنيَّ وضعَ حدًّا لجيشِ إسرائيلَ بعدَ بَدئِه معركةَ الكرامةِ، يومَ الحادي والعشرينَ من آذارِ عام 1968 والتي استمرتْ ستَّ عشرةَ ساعةً متواصلةً، انتهتْ بإذعان اسرائيل للشرط الاردني لوقف إطلاق النار الذي طلبته اسرائيل وهو خروجِ كلِّ الجنودِ الإسرائيليِّينَ إلى غربِ النهرِ.