استبشر الشارع الأردني بالتغيير الحكومي، واستبشر أكثر بالوعود الصادرة عن جلالة الملك بضرورة مراعاة توفير حياة كريمة للمواطن من الطبقة الفقيرة والمتوسطة بحيث لا تمسها الإجراءات الحكومية. الرئيس المكلف بدوره أكد على ضرورة تغيير النهج وهو الشخص الذي أثبت نجاحه وصدق وعوده فيما أوكل إليه من أعمال سابقة. في خضم كل هذه الأحداث لوحظ غياب الهم الثقافي (الفني) وتأثيره، الأمر الذي يحتاج إلى تفسير وتحليل.
هنا يتبادر إلينا السؤال التالي: هل سيتغير نهج وزارة الثقافة أيضاً؟
لن نتطرق في هذه المقالة القصيرة إلى نهج الحكومة في تعاملها مع الثقافة، حيث تخصص ما يقل عن الواحد بالألف من الميزانية العامة لوزارة الثقافة، بل سنركز على نهج وزارات الثقافة المتعاقبة، والتي لا تؤدي الأدوار المطلوبة منها والمنصوص عليها في القانون المؤسس للوزارة ومن أبرزها “تنمية ثقافة وطنية شاملة في المملكة”. حيث تتوخى الوزارة دائماً مبدأ تسيير الأمور ومحاولة إرضاء واسترضاء المثقفين والفنانين والهيئات والمؤسسات التي يتبعون لها، مهمشين دورهم الرئيس في خدمة المواطن وتنمية ثقافته، ففي قضية النشر مثلا تتعامل الوزارة بآلية “الدور”، بحيث تنشر أكبر قدر من الأعمال لأكبر عدد ممكن من المثقفين، ولا يجوز نشر أكثر من عمل للمبدع الواحد حتى لو كان على قدر كبير من الأهمية، إلا بعد مرور أعوام تحدد بشكل مختلف من فترة إلى أخرى. متناسية أن الأصل في العمل الثقافي هو نشر ما يساهم في تنمية ثقافة المواطن الذي يدفع الضرائب وليس تكسيب المثقف.
هذه الآلية تُطبق على جميع الفنون الأخرى، من مسرح وشعر وأدب وفنون تشكيلية، وتعتبر المهمة منجزة بمجرد إرضاء مجموعة مثقفين تم توكيلهم لإنتاج مشاريع ممولة من قبل الوزارة سرعان ما تنسى وتنمحي من الذاكرة ولا تنتبه إليها الشريحة الواسعة من الشعب، فكيف ينتظر من هكذا آلية أن تشكل ثقافة وطنية شاملة؟
وهكذا، لا تجرؤ وزارة الثقافة على مجرد التفكير بنشر إبداعات فكرية لمؤلفين عرب وأجانب لأن العقلية في الوزارة والوسط الثقافي اعتادت على التعامل مع هذه الوزارة على أنها وزارة للمثقفين حصرا. على الرغم من أن الأصل أن من حق المواطن دافع الضريبة أن يتلقى هو الخدمة من وزارة الثقافة، فتقدم له الوزارة بالمقابل ما يرتقي بذوقه ويساهم بتنمية ثقافته كما ينص قانون وزارة الثقافة. وهذا ليس ببدعة غريبة ففي الكويت مثلا تقوم الكويت بنشر إبداعات عالمية في سلسلة المسرح العالمي وعالم المعرفة وسلسلة إبداعات عالمية ناهيك عن المجلات الكثيرة التي ساهمت ليس فقط في تنمية ثقافة المواطن الكويتي، بل والعربي بشكل عام. الدول التي اتبعت هذا الطريق ومنها مصر والمغرب إضافة إلى دول خليجية أخرى، لم تهمل المثقف المحلي، فتجدها ترعاه من خلال برامج التفرغ الإبداعي الحقيقية. التفرغ الذي يوفر حياة كريمة للمبدع، وليس التفرغ الإبداعي بشكله المتبع في الأردن والذي حول المبدع إلى مقاول للأعمال الفنية، عليه أن يقدم مشروعا يشبه مشاريع التخرج الجامعية ليحصل على مبلغ من المال، فيما يستمر بقبض معاشه الشهري دون الالتزام بالدوام الرسمي.
في مجال المسرح والأفلام والفنون الموسيقية تتجسد مسألة المقاولات بأوضح صورها، حتى وصل الأمر أن تعمل الفرقة على المشروع الذي مولته الوزارة لفترة طويلة من الزمن، من أجل أن يعرض العمل ليوم واحد في المهرجان. تحسن الأمر فصار يُطلب من المخرج أن يعرض خمسة عروض بدلاً من عرض اليوم الواحد، (معروف طبعا أن هذه الإجراءات لا تؤدي لخلق حركة مسرحية، إلا أن هذا موضوع آخر).
ومن هنا نتساءل: هل أدت هذه لمهرجانات لخلق ثقافة مسرحية؟ يكفي أن نذكر بأنه في بداية الألفية الثالثة كنا ننزعج من رنة الهاتف النقال في المسرح، الآن صرنا نرى المتفرج يرد على الهاتف، حين يرن، ويتحدث مع المتصل أثناء العرض.
آن الأوان بعد أن تأكد فشل مفهوم المقاولات الفنية أن تبدأ الوزارة فعلا بالتفكير بآليات أخرى لدعم هذه الفنون ونشرها أو عرضها (وليس دعم الفنانين حصراً)، من مثل تأسيس فرق في مختلف المحافظات، وتفريغ فنانين، وتشجيع أفكار مسرح يومي وريبرتوار، وفتح المسارح للفرق التي تتصدى للعمل على مسؤوليتها بإنتاج خاص أو بدعم من مؤسسات مختلفة بموافقة وعلم وزارة الثقافة، وترسيخ ثقافة الذهاب للمسرح ودفع مبلغ ولو رمزي مقابل تلقي الخدمة (الثقافية).
لن تقطف النتائج فورا، بل سنحتاج لزمن حتى يفرز الريبرتوار الفنان الحقيقي عن المدعي سواء كمخرج أو ممثل أو مؤلف، لكننا في النهاية وبعد مدة (لن تكون طويلة) سنحصل على فن حقيقي يؤثر ويتأثر بالواقع المجتمعي بحيث ينميان بمعية بعضهما البعض. سنحصل على منجزات ثقافية ومنشورات وفعاليات موجهة للشعب وتخدم ثقافته وترتقي بها، كبديل لمبدأ التنفيع والمحاباة “وآلية الدور” السائدة. في النهاية سنحصل على وزارة للثقافة، وليس وزارة للمثقفين فقط.
في الوقت نفسه ينبغي على الوزارة ألا تسمح للمؤسسات الاستثمارية في الأردن أن تستغل قوانين دعم الفعاليات الثقافية للتهرب من دفع الضريبة، حيث تقوم بعض الشركات بدعم مشاريع فنية بطريقة تطغى عليها الشخصانية، وانعدام الشفافية، وحتى المصداقية، ينبغي أن يكون الدعم لنفس الوزارة ومشاريعها حتى يخصم من ضريبة كبار دافعي الضرائب، أو على الأقل مرهونا بموافقة الوزارة ومعروف القدر وأوجه الصرف لتلك المبالغ بحيث تكون تحت مراقبة الوزارة.
المقالة لا تسمح بتفصيل كل الأفكار لكنني آمل من الوزير القادم أن يعمل على التفكير في منهج آخر من خلال استشارة طاقم من الخبراء المطلعين على أفضل التجارب في العالم وأنسبها للواقع في الأردن، للعمل على تطوير الحالة الثقافية أولا، وليس إرضاء المثقف أو تحقيق مصالح شخصية، والابتعاد عن أصحاب الغايات الانتخابية قبل كل شيء.